مقالات

الحواكير والإدارة الأهلية في دارفور: جدل الأرض والهوية والدولة (1)- بقلم حسين تبري

في قلب المسافة الممتدة بين وعي الإنسان الدارفوري بمكانه التاريخي، وبين التشوهات العميقة التي صنعتها الحرب والسياسات المركزية، تقف قضية الحواكير بوصفها واحدة من أعقد المسائل التي تصوغ وجه الصراع في دارفور، ليس فقط بوصفها مسألة ملكية للأرض، بل كمفهوم مشحون بالهوية والانتماء والمشروعية السياسية.

ولأن الأرض في دارفور ليست فقط موردًا طبيعيًا، بل مركزًا لبنية اجتماعية وثقافية كاملة، فإن اي خلخلة تطال علاقتها بسكانها، أو تعيد تعريفها خارج سياقها التاريخي، تفتح الباب واسعًا أمام أزمات متوالية، من التهميش إلى الإقصاء، ومن النزاعات المحلية إلى الحروب الإقليمية. ولهذا فإن الخوض في قضية الحواكير لا يمكن أن يتم بمنأى عن قراءة التاريخ الاجتماعي والسياسي، وتحليل التشكلات السكانية، والنظر بتمعّن في صراع السلطة بين الإدارة الأهلية والدولة الحديثة.

لقد تشكلت الحواكير تاريخيًا كنظام محلي لإدارة الأرض وتنظيم العلاقة بين القبائل، وظلّت، رغم محدودية بعض ممارساتها، تمثل صيغة ناجعة للاستقرار الاجتماعي في بيئة متعددة الأعراق والمصالح. ومع مجيء الدولة الحديثة، لم يحدث اندماج سلس بين هذا النظام الأهلي والإطار القانوني والسياسي الرسمي، بل ظلت العلاقة بين الطرفين متوترة، في أغلب الأحيان، تنضح بما يكشف عن تناقض في مفهومي السلطة والشرعية.

ومن هنا يبرز السؤال الجوهري: هل تتعارض الحواكير كنظام أهلي مع مفهوم الدولة الحديثة؟ وإذا كانت الدولة تطرح نفسها باعتبارها صاحبة الحق السيادي الأوحد في الأرض، فكيف يمكن النظر إلى الاعتراف القانوني الجزئي بنظام الحواكير، كما ورد في قانون الحكم المحلي، أو في مسارات السلام الجزئية؟

ثم تأتي المسألة الأخطر: التغيير الديمغرافي باعتباره أداة سياسية في سياق الحرب، لا فقط نتيجة طبيعية للحراك السكاني. هنا يصبح التلاعب بملكية الأرض مسألة تتجاوز التنافس المحلي لتدخل في صلب مشروع سياسي لتغيير تركيبة المنطقة، وتشويه بنيتها الثقافية والاجتماعية. ومن هذه الزاوية، يمكن فهم الجذر السياسي لصعوبة حل قضية الحواكير، لأن في جوهرها يكمن صراع طويل على الشرعية والهوية والسيادة.

ولعل أخطر ما في هذه الإشكالية أنها لا تقف عند حدود الماضي، بل تُلقي بظلالها على راهن الحرب، وتفسر جانبًا من مواقف المجتمعات المحلية. إذ رغم تبني الدعم الsريع لخطاب “المهمشين”، إلا أن الغالبية العظمى من أصحاب الحواكير من غير القبائل العربية لم ينخرطوا في صفها، بل ظل كثير منهم على الحياد أو في صفوف المقاومة المدنية والعسكرية ضدها. ذلك لأن الذاكرة الجمعية تحتفظ بتجربة طويلة من النزاعات المرتبطة بالأرض، مارست فيها المليشيات المرتبطة بالدعم الsريع انتهاكات ممنهجة ترتبط مباشرة بفكرة نزع الحاكورة وتغيير هوية المكان.

إننا هنا أمام مشهد معقد، تتداخل فيه طبقات من التاريخ الاجتماعي والثقافي، مع حسابات سياسية واقتصادية، لتنتج أزمة تُمثّل جوهر الصراع في دارفور منذ عقود. ولفهم هذه الأزمة لا بد من استعادة السياق الذي نشأت فيه الحواكير، ثم تتبع كيف تحولت من وسيلة للاستقرار إلى مصدر للنزاع، ومن مرجعية اجتماعية إلى قضية سياسية شائكة.

في المقال القادم، سنعود إلى سلطنة الفور، ونتتبع نشأة مفهوم الحاكورة وتطوره، من إرث الأرض إلى ترميز الهوية، ومن ضمان الإنتاج الزراعي والرعوي، إلى تثبيت النفوذ القبلي والسياسي. فبين طبقات هذا التاريخ، تتكون الإجابة الأولى عن السؤال المركزي: كيف أصبحت الأرض مسرحًا دائمًا للصراع، وأداة لإعادة تعريف دارفور في الخيال السياسي السوداني.

https://www.facebook.com/share/1HWufKJTs7/?

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى