اخبار

الانتاج الزراعي في السودان: نموذج للصمود والمقاومة البنيوية في زمن الحرب

الانتاج الزراعي في السودان: نموذج للصمود والمقاومة البنيوية في زمن الحرب
أمجد فريد الطيب

في ظل الحرب المستمرة التي تعصف بالسودان منذ أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية ومليشيا قوات الدعم السريع، واجه قطاع الإنتاج الزراعي والحيواني، الذي ظلّ لفترة طويلة العمود الفقري للاقتصاد الوطني السوداني، تحديات هائلة، خصوصًا في المواسم الزراعية لعام 2023 الذي اندلعت فيه الحرب. وهو، بطبيعة الحال، ما تسبب في هزة كبيرة في الأمن الغذائي، وفجوة غذائية وصلت إلى مستويات غير مسبوقة من المجاعة في بعض مناطق السودان.

لكن التقرير الجديد الصادر عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO) قبل عدة أسابيع (في مارس 2025) كشف عن قصة صمود مدهشة، وقدرة أسطورية على التعافي والمساهمة في سد الحوجة الغذائية للبلاد في قطاعي الإنتاج الزراعي والحيواني، في خضم هذه الحرب. استند التقرير إلى بعثة تقييم المحاصيل والإمدادات الغذائية في جمهورية السودان، والتي اعتمدت على زيارات ميدانية لعدد من الولايات السودانية شملت: الجزيرة، القضارف، النيل الأزرق، كسلا، البحر الأحمر، الشمالية، نهر النيل، سنار، والنيل الأبيض، وهي ولايات تُعتبر آمنة وتحت سيطرة القوات المسلحة السودانية في الفترة من ديسمبر 2024 إلى يناير 2025، بالإضافة إلى بيانات جمعها فريق عمل متخصص في العمل عن بُعد لتغطية ولايات الخرطوم ودارفور وكردفان، بغرض تقديم صورة شاملة عن الإنتاج الزراعي لعام 2024/2025. وتضمنت عملية جمع البيانات مقابلات مع مؤسسات حكومية، وسلطات ولائية، ومنظمات أممية وغير حكومية، بالإضافة إلى زيارات ميدانية ومقابلات مع مزارعين ورعاة وتجار. كما تم استخدام بيانات الأقمار الصناعية وصور الغطاء النباتي لتدعيم المعلومات الميدانية، خاصة فيما يتعلق بأداء موسم الأمطار وظروف الغطاء النباتي.

جاءت أبرز نتائج التقرير فيما يتعلق بالإنتاج الزراعي، حيث حقق السودان في موسم 2024/2025 إنجازًا ملحوظًا في الإنتاج الزراعي، تجاوز فيه عثرات سنة اندلاع الحرب، وإن لم يبلغ بعد التعافي الكامل. بلغ إجمالي إنتاج الحبوب 6.7 مليون طن، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 62% مقارنة بالعام السابق، و7% أعلى من المتوسط السنوي للخمس سنوات الماضية (6.26 مليون طن).
وشمل هذا المحصول:
• إنتاج الذرة الرفيعة: بلغ 5.4 مليون طن، بزيادة 77% عن 2023 (3.06 مليون طن)، و30% فوق متوسط الخمسة أعوام السابقة (4.15 مليون طن).
• إنتاج الدُخن: 792,943 طن، بزيادة 16% عن 2023 (683,000 طن)، لكنه أقل بـ45% من متوسط الخمسة أعوام السابقة (1.44 مليون طن).
• إنتاج القمح: بلغ 490,320 طن، بزيادة 30% عن المتوسط السنوي السابق (377,000 طن)، لكنه أقل بـ22% من متوسط الخمسة أعوام السابقة (629,000 طن).

كما زادت المساحة الكلية المزروعة بالحبوب إلى 15.1 مليون هكتار، بزيادة 10% عن موسم 2023/2024 (13.7 مليون هكتار)، و5% فوق متوسط الخمسة أعوام السابقة (14.4 مليون هكتار).
ساهم في هذا النجاح موسم أمطار استثنائي، حيث أظهرت بيانات مؤشر صحة النباتات (VHI – Vegetation Health Index) ظروفًا نباتية ممتازة في أكتوبر 2024، مع توزيع زمني جيد للأمطار بدأ في يوليو من العام نفسه. وقد تحقق هذا النجاح رغم نقص المدخلات الزراعية (بذور، أسمدة، مبيدات، آلات، وقود، عمالة) وازدياد كلفتها بسبب ظروف الحرب، حيث زادت تكاليف البذور والأسمدة والوقود نتيجة التضخم (الذي بلغت نسبته أكثر من 240% في أواخر 2024) وانخفاض قيمة الجنيه السوداني إلى 2445 جنيهًا لكل دولار أمريكي (بحسب سعر الصرف في ديسمبر 2024، مقارنة بـ1100 جنيه/دولار في ديسمبر 2023 و603 جنيه/دولار في مارس 2023 قبل اندلاع الحرب).

سيساهم هذا الإنتاج المبشّر في تغطية الاحتياجات الغذائية بشكل كبير. فمع عدد سكان يُقدَّر في العام 2025 بحوالي 50.7 مليون نسمة، يبلغ الطلب السنوي على الحبوب 7.715 مليون طن، بناءً على متوسط استهلاك فردي قدره 152 كجم (75 كجم ذرة رفيعة، 58 كجم قمح، 16 كجم دخن، 2 كجم أرز، 1 كجم ذرة). وتشمل استخدامات هذه الحبوب أيضًا الاستخدام كعلف بكمية تُقدَّر بحوالي 285,540 طن (5% من الذرة الرفيعة و2% من الدخن)، وكذلك الاستخدام كبذور (تقاوي زراعية) بمقدار 116,960 طن، فيما تصل الخسائر بعد الحصاد إلى 314,230 طن. مما يجعل الحوجة الكلية من الحبوب الغذائية في السودان حوالي 8.42 مليون طن.

ومع إنتاج محلي قدره 6.7 مليون طن، ومخزونات متاحة تبلغ 9,151 طن (1,540 طن خاصة، 3,262 طن للمنظمات الإنسانية، 4,349 طن للمخزون الاستراتيجي)، تظهر فجوة مقدارها 2.7 مليون طن، تحتاج إلى تغطيتها عبر الاستيراد. وتشكل الحوجة إلى القمح النسبة الأكبر من هذه الفجوة بنسبة 91%. ومع ذلك، فإن هناك فائضًا متوقعًا في الذرة الرفيعة يُقدَّر بحوالي 979,330 طن، مما قد يعزز المخزونات الوطنية، وقد يساعد في سد فجوة الاستيراد إذا تم التفاوض مع المؤسسات الدولية، وعلى الأخص برنامج الغذاء العالمي، على صفقات مبادلة الذرة بالقمح. وقد ساهم هذا الإنتاج حتى الآن في انخفاض أسعار الذرة الرفيعة والدخن المنتجة محليًا بنسبة 20% و10% على التوالي بين أكتوبر وديسمبر 2024 مع بدء تسويق محاصيل 2024 الجديدة، إلا أنها لا تزال حوالي خمسة أضعاف مستوياتها قبل النزاع في أبريل 2023.

أما بالنسبة لقطاع الإنتاج الحيواني، الذي يضم 112.5 مليون رأس (41.5 مليون خروف، 32.9 مليون عنزة، 33 مليون بقرة، 5 ملايين جمل)، فقد عكس أيضًا صمودًا ملحوظًا. تحسنت حالة الحيوانات في 2024 مقارنة بـ2023، بفضل أمطار غزيرة عززت المراعي من مستوى جيد إلى ممتاز، مع توقعات باستمرارها حتى مارس 2025. ونجحت الجهود الحكومية في تطعيم 8,187,400 رأس في الولايات الآمنة تحت سيطرة القوات المسلحة، رغم توقف الإنتاج المحلي للقاحات بسبب النزاع، حيث قدمت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة وبعض المنظمات الأخرى دعمًا باللقاحات المستوردة. لكن القيود الأمنية أدت إلى تركز القطعان في ولايات مثل القضارف وكسلا، مما قد يؤثر على جدب المراعي في وقت مبكر.

ولأسباب تتعلق بالوضع الاقتصادي العام، سجلت أسعار المواشي ارتفاعًا كبيرًا خلال هذا العام مقارنة بالعام السابق، حيث بلغ سعر الرأس الواحد من الأبقار الحلوب 3.5 مليون جنيه (ما يعادل حوالي 1,432 دولارًا أمريكيًا بسعر الصرف الحالي 2445 جنيهًا/دولار في مايو 2025)، بزيادة 438% عن ديسمبر 2023 (800,000 جنيه أو 327 دولارًا).
وبالنسبة للماعز الحلوب: 350,000 جنيه (143 دولارًا)، بزيادة 233%،
والثيران: 800,000 جنيه (327 دولارًا)، بزيادة 160%،
والعجول: 950,000 جنيه (389 دولارًا)، بزيادة 271%،
والجمال: 7 ملايين جنيه (2,863 دولارًا)، بزيادة 140%،
والأغنام: 450,000 جنيه (184 دولارًا)، بزيادة 250%.

زاد حجم صادر الثروة الحيوانية ليصل إلى 5 ملايين رأس، بنسبة زيادة 10% عن العام السابق، لكنه لا يزال أقل من صادرات السودان من الثروة الحيوانية قبل الحرب، والتي بلغت قرابة 7 ملايين رأس سنويًا في عام 2018. وذلك دون احتساب الخسائر الناتجة عن توقف تصدير اللحوم المذبوحة والمجمدة. كما أن تفشي أمراض موضعية (مثل البقر اللزج ومرض الفم والأظلاف) يُهدد هذا التقدم، مع ضعف الحملات الرسمية للتطعيم التي كانت منتظمة قبل الحرب.

بالرغم من هذا التقدم في الإنتاج الغذائي، فإن استمرار الحرب يُشكّل التهديد الأكبر للأمن الغذائي. فقد أدت الحرب إلى تهجير 11.6 مليون شخص داخليًا (8.84 مليون منذ أبريل 2023، مضافًا إليهم 2.73 مليون قبل النزاع) و3.5 مليون إلى الخارج (تشاد، جنوب السودان، مصر). ويواجه 24.6 مليون شخص (نصف السكان) أزمة غذائية حادة، بما في ذلك 8.1 مليون في مرحلة الطوارئ، و637,000 في مرحلة الكارثة، مع مخاطر مجاعة في مناطق مختلفة من البلاد تشمل: شمال دارفور، غرب كردفان، جنوب كردفان، الجزيرة، والخرطوم. وأدى تعطيل الطرق التجارية بسبب الظروف الأمنية إلى ارتفاع أسعار الوقود بنسبة تتراوح بين 150–250%، وبالتالي ارتفاع تكاليف الزراعة والشحن، ما انعكس على أسعار الغذاء. وبينما تراجعت أسعار الذرة الرفيعة والدخن بنسبة 20% و10% بين أكتوبر وديسمبر 2024، فإنها لا تزال خمسة أضعاف مستوياتها ما قبل اندلاع الحرب.
كما يؤثر نقص البذور القياسية والمعتمدة، والتي توفر منها 5,297 طن فقط عبر الفاو (منظمة الأغذية والزراعة) قبل بدء الموسم الزراعي الأخير، بالإضافة إلى تدهور القنوات المروية في مشاريع زراعية كبرى مثل مشروع الجزيرة، الذي قامت مليشيا قوات الدعم السريع بتدميره بشكل متعمد خلال سيطرتها على ولاية الجزيرة، إلى جانب انهيار الناتج المحلي (29.6% في 2024) ونسبة التضخم التي بلغت 240%، جميعها عوامل تُساهم في هشاشة وضع الأمن الغذائي في السودان.

كشفت التجربة السودانية خلال الحرب المستعرة منذ أبريل 2023 عن ضرورة إعادة النظر في النموذج التقليدي المعتمد في الاستجابة للأزمات الإنسانية، ولا سيما في ما يتعلق بالأمن الغذائي. فبينما ظل التركيز السائد لمنظومة المساعدات الدولية منصبًا على استيراد المعونات الغذائية الجاهزة من الخارج، أظهر القطاع الزراعي السوداني – رغم الحرب، وشح الموارد، والانهيار المؤسسي – قدرة استثنائية على الصمود والتعافي. هذا الأداء الاستثنائي، كما وثقه تقرير بعثة تقييم المحاصيل والإمدادات الغذائية للأمم المتحدة، يبرهن على أن الاعتماد على الإنتاج المحلي ليس مجرد خيار نظري، بل هو مسار عملي وفعال ومجرب. إن هذه الدينامية تفرض ضرورة استراتيجية لتغيير نهج عمل المنظمات الإنسانية الدولية والإقليمية، عبر الانتقال من نموذج الاستيراد الطارئ إلى نموذج أكثر استدامة ونجاعة، يقوم على التوطين ودعم قدرات المزارعين المحليين وتوفير المدخلات الزراعية الأساسية – من بذور وأسمدة وآليات ووقود – في الوقت المناسب، إلى جانب دعم الصناعات الغذائية الصغيرة والمتوسطة التي تمثل حلقة أساسية في سلسلة القيمة الغذائية. هذا التحول لا يُمكّن فقط من توطين المساعدة الإنسانية، بل يقلص التكاليف بشكل كبير، خاصة في ظل محدودية التمويل الدولي وتراجع الموارد المخصصة للعمل الإنساني في السودان بل وفي العالم كله. أن توطين المساعدة الإنسانية ليس مجرد شعار؛ بل هو من حيث الأثر الاقتصادي والاجتماعي والعملياتي خيار أكثر كفاءة من حيث الكلفة (more cost-effective)، بما لا يُقارن. فتقوية سلاسل الإنتاج الغذائي المحلية يعزز مناعتها أمام الصدمات، ويقلل من الاعتماد على الخارج، ويخلق آثارًا اقتصادية مضاعفة، خصوصًا وأن الزراعة لا تزال تمثل النشاط الاقتصادي الرئيسي لأكثر من 65% من السكان، وتساهم بما يقارب 25% من الناتج المحلي الإجمالي في سنوات ما قبل الحرب (2020–2022). إن الاستثمار في هذا القطاع هو استثمار في استقرار المجتمعات وقدرتها على الصمود، وفي بنية الاقتصاد الكلي للدولة السودانية.
لذلك، فإن أي استراتيجية واقعية لمعالجة الأزمة الغذائية في السودان ينبغي أن تنطلق من الواقع المحلي، وأن تجعل من دعم الإنتاج الزراعي والغذائي المحلي حجر الزاوية، لا فقط من أجل الأمن الغذائي، بل كركيزة للتعافي الاقتصادي والاجتماعي في المدى القريب والبعيد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى